مصطفى سعيد

الاخ الانسان محمد سليمان(79)
الصفحة الثقافية و هي تحمل مقال (مصطفى  سعيد ,(جريدة ايلاف)

في العام 1979 ونحن على أعتاب الامتحانات للجامعة من مدرسة دنقلا الثانوية كان معي في الفصل و العنبر الاخ الصديق محمد سليمان محمد على من منطقة عكاشة* .
كان محمد سليمان شديد الذكاء خلوق لدرجة لا توصف. حتى انه لم يكن يعرف لكلمة ( لا) سبيلا. و كانت هذه الخصلة الطيبه تعرضه الى بذل مجهود غير عادى لارضاء الجميع. ونسبة للبعد الكبير من المدرسة الى السوق(في ذلك الزمان لم تكن وسيلة للمواصلات الا على الاقدام) كان اى شخص يريد الذهاب الى السوق يقصده للصحبة و المسكين رغم انه قد يكون عاد للتو من هناك ,لا يستطيع الاعتذار و لا من نطق كلمة  "لا " فيرافق هذا و ذاك.
حينما اقتربت الامتحانات و ارتفعت وتيرة المذاكرة لا حظت انه لا يذاكر بل انه فى وقت الدرس الالزامى يكون منهمكا في قراءة   موضوع ليس له علاقة بمواد الامتحان ورغم ان تخصصه كان في الرياضيات الاضافية الا انه كان يكتفي بما يتحصل عليه من الاستاذ اثناء الحصص.
بالحق كان درس الاستاذ في ذلك الوقت يكفي.فأمثال الاستاذ الخلوق المبدع استاذ محمد ادريس واحمد عبد اللطيف و محمد المبارك وفتح الرحمن  و عيسابي (واخصه بشكر خاص على نصحه لي بالا يكون اهتمامي بالرياضيات على حساب اللغة العربية , قد افادتني نصائحه في وقت لاحق عندما تعلمت تجويد القران الكريم) وغيرهم من الذين لن يجود الزمان بامثالهم.
 كان ما يعطوه لنا من معلومات اشبه بالمسلسلات حيث نكون في شوق لمعرقة باقى الحكاية (و ليس الدرس, الدرس كان اجمل من مسلسلات هذا الزمن الغابر)
 الرجوع الى المذاكرة وحل الامتحانات القديمة كانت سمة يشارك فيها الجميع الا محمد سليمان و الذى كان يكتفى بحفظ  شعر لم يكن في المقرر او معلقة عجبته.
في يوم عزمت النية الا اترك هذا الشخص على حاله  من الاعراض عن المنهج موضوع الامتحانات و اضاعة الوقت في امور ليست لها علاقة بالمقرر و بدأت  في مناقشة الموضوع .حتى اذا اشتد عتابي, قال انه سييطلعنى على سر عدم اهتمامه بالمذاكرة وانه يخطط لاحراز اقل نجاح و انه حريص كل الحرص على الا ينسى هذ القرار.
لكن لماذا؟
 كل الناس يحرصون على تحقيق نجاح كبير و انت من دونهم تريد نجاحا قليلا ؟
قال : أعرف انك قرات موسم الهجرة للشمال للكاتب الكبير الطيب صاح(رحمه الله), قلت نعم لكن ما هي العلاقة ؟
قال : وجه الشبه يكمن في العلاقة المعقدة بين مصطفي سعيد و امه وكذلك علاقتي بأمي .
تكاد العلاقة الغريبة من عدم التحدث الى بعضهما تنطبق بنسبة مائة بالمائة على علاقاتى بأمى.
 منذ وفاة والدى ليس بيننا الا ماندر من الكلام .
قال : أنه يحفظ مشاهد و لحظات وداع مصطفى سعيد لامه حينما سافرالى مصر(او قررروا سفره لهناك)
فقلت : لكن ما علاقة ذلك و انصرافك عن المذاكرة بتعمد شديد؟
قال: ما كنت ادرى أن امى تعلم ما هي سنوات الدراسة في الثانوى , بل كنت متاكدا انها لا تعلم في اي فصل انا ومتى سأمتحن.
الا انى تفاجات حين اقتراب اللوري (ما كانت وسيلة انذاك سوى اللواري) الذي سيقلنا الى المدرسة, تفجات بها تبكي و تحضننى ,لاول مرة أشعر بدفء امى و حنانها
و قالت: ما شاء الله يا بنى لقد جرت السنون و ها انت في عامك الاخير من الثانوى وسوف تتخرج معلما وتتزوج وتسكن بقربي.
 لا أخفي عليك كم كان ذهولي فلأول مرة انتبه الى ما كانت تكابده من عناء توفير مستلزمات السفرو بعض المصاريف.
لحظتها علمت ما يشغلها ولماذا لا تميل للتحدث معي, ربما كانت متيقنة اذا ما صارحتنى بسوء الظروف بعد وفاة الوالد اني سأترك الدراسة .
و حسب تصورها لهذا الاحتمال اختارت هذا الوقت بالذات للتعبيرعن نجاحها  في الصمود كل تلك الفترة , وما اقتراب اللوري الا دليل نجاحها اذ أن اللوري سيقوم بتوصيلى للسنة الاخيرة ثم التخرج.
لحظتها أدركتٌ أن دخول الهندسة حلم يجب أن أتنازل عنه طوعا , و أنا على ثقة أنها قريبة مني لكن , أنا أرفضها , و هذا يا أخي سبب انصرافي لقراءة ما هو خارج المقرر . 
فسألته و ماذا يعني ذلك؟
قال: لقد خرج مصفى سعيد بعد تلك اللحظة من اضطراب المشاعر و الاشواق شمالا الى مصر ومن ثم الى انجلترا ولم يرجع الا بعد سلسلة من حياة تراجيدية وعندئذ لم تكن أمه موجوده بل لم يكن هناك من يعرفه على الاطلاق.
لكنك يا محمد انت لست بمصطفى سعيد ولا انت ذاهب للشمال .بل ستذهب جنوبا على نحو مغاير, رحلة داخل دولة لا أكثر و لا اقل و أنت تعلم ان مصطفى سعيد اختصر كل شي في حياته و قال انه اكذوبة.
قال : نعم أنا لست بمصطفى سعيد و بل لا أريد ان أكون انانيا مثله أترك والدتى وحدها وأأجل فرحتها لتحقيق لقب هندسي. أنت تعلم تعمدي عدم المذاكرة ولا يخفى عليك أنني بمجهود قليل سأحقق النسبة و(البوكسن) المطلوب لدخول هندسة جامعة الخرطوم.
 اذا طاوعتك و ذاكرت وأحرزت البوكسن المطلوب قد اتمادى في انانيتي و ارضاء مطامحي الشخصية وأضرب بأمنية والدتي عرض الحائط لكن بهذا الانصراف سأنجح بالكاد و اعمل في مهنة التدريس.
و ماذا ستفعل لي الهندسة اذا ما ماتت أمي قبل التخرج ؟
 من الغباء تأجيل امنية يمكن أن أحققها لها بعد شهور قليلة الى خمس سنوات وقد تزيد الى أن أجد عملا.
 قلت : أخى محمد انت تتشاءم كثيرا و تخضع لقبول عرض تراه أمك بمحدودية و قصر نظر , لكن عندما تتخرج مهندسا سيكون في امكانك أن تسعدها أكثر وهي ستشعر بقيمة ما قمت به وقيمة صبرها وستكون مفخرة لها.
    و رغم تكرار محاولاتي لزحزحته و لو قليلاًُ, صمد على رأيه وتعمد الا يقرأ حرفا واحدا بعد انتهاء الحصص و رغم ذلك تحصل على نسبة60% و كانت تؤهله بحساب( البوكسن) لعلوم الخرطوم و هندسة  جامعات أخرى لكنه غض الطرف عن الجامعات مع سبق الاصرار, بل رفض مبدأ ملأ (أورنيك) التقديم  للجامعة و عمل معلما بالمرحلة الابتدائية محققا رغبة تمنتها أمه.
 و انتصر محمد لتحقيق رجاء أمه العظيمة التي قامت بدور الام و الأب و تحملت عبء اعادة اسرتها من و ادي حلفا الى عكاشة بعد أن أغرقها ماء السد و توفي والده هناك وأخرجت للعالم انسانا نادرا, همه ارضاء غيره مؤجلا ارضاء نفسه الى زمن قد يكون او لا يكون .
  كم منا نجح في تحقيق رغبات الام ست الحبابيب على وهج احلامه غير هذا البطل.
ما دفعنى لكتابة هذه الذكريات انني لم أنجح في ملاقاة هذا الانسان الانسان منذاك التاريخ حتى الان.




لمتابعة تعليقات قراء الفيس بوك اتبع الرابط:
https://www.facebook.com/note.php?note_id=112605802122920

 *عكاشة: قرية صغيرة شمال عبرى معروفة بحماماتها الطبيعية ذات المياه المعدنية يقصدها العديد من الناس للاشفاء

سنة 2 ثانوى (دنقلا):استاذا عيسابي الجالس على الكرسي من الشمال
وقوف من اليمين (محمد ادريس صالح (بنك الخرطوم) فتحي عبد السيد أمريكا ,بكري وردى , السعودية ,دكتور ابوذر محمد علي )
جلوس (من اليمين) : شخصى الضعيف ,محمد سليمان ومحمد ابراهيم محمد بدرصواردة - انجلترا حاليا)

محمد سليمان(مصطفى محمود)

تعليقات

التحية للاخ الحبيب على جهدك الجميل ارجو المشاركة فى منتديات جزيرة كولب الخضراء واحكى لنا عن زملاك والطرايف الجميلة مره بيكم اخيكم سمل ود الولياب جزيرة كولب الخضراء جوال 0568351172
‏قال ahmed salih
شكرا علي لتمجيدك للانسان الأنسان نعم .. هذه النماذج و التي كانت قاعدة أكثر مما هي استثناء هي التي دفعت الطيب صالح ( رحمه الله ) للتساؤل من أين أتى هؤلاء ؟.
‏قال ما تيسر
دكتور أحمد أشكرك على كلامك الطيب,من المؤسف أن يأتى هؤلاء من غضب أرسله الله علينا و يذهب بالمقابل على المك ,الطيب صالح , بروفسور عبد الله الطيب و كثيرون ممن كان يمكن ان يسهموا في اثراء ما هو جميل في حياة شعبنا.و يبقى هؤلاء و يهاجر الادباء و الاطباء و المهندسون و التشكيليون خارج بلادهم و بالطبع لن يعود من هاجر.
موت و هجرة من لهم فيمة جعل من الباقين حياة لا طعم فيها لان هؤلاء جعلوا همه ان يموت وراء رزق لا يشبع بطنا و علاج مرض يقتك وعبثا يحاول تسديدجبايات لا تنتهى.
و عبثا يحاول ان يسترد حرية من استرقاق طال .
الانسان النموذج ليكون قاعدة يجب ان يجد قيادة لها خلق و أدب و رحمة و صدق النبي الكريم صلى الله عليه و سلم و هو القائل (أدبني ربي فأحسن تأديبي)

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النخله الحمقاء , ايليا ابوماضي

سر الرقم 73 ( قصة حقيقة)

صخرة النبي موسى عليه السلام