الشئ السوداني! .. بقلم: السفير عوض محمد الحسن


الشئ السوداني تعبير كنا نلجأ إليه أيام الصبا (وما زلنا) حين نعجز عن فهم أقوال وتصرفات الأفراد والجماعات والأحزاب والحكومات التي لاتخضع لمنطق أو حس سليم. يفاجئنا تصرف ما بغرابته وخروجه عن المألوف والمتوقع، فلا نفهمه مهما قلّبنا أوجُهَه وأعملنا فيه الفكر. وحين نعجز عن فك طلاسمه، نلوح بأذرعنا في الهواء في يأس ونقول:" هو الشئ السوداني!"

وكان مثلنا القديم والكلاسيكي للشئ السوداني هو القصة المعروفة عن السجّان الذي يقود سجينا من مكان لآخر عبر المدينة الإقليمية الصغيرة، راجلين. يحمل السجّان بندقيته على كتفه، ويسير خلف السجين الذي يتقدمه دون أصفاد. وحين يتوسطان سوق المدينة، يُعلن السجين رغبته في زيارة المراحيض العامة في وسط السوق. يسمح له السجان بذلك دون شك أو تردد، وينتظره عند المدخل. وحين يخرج السجين بعد أن قضى حاجته، يُسلمه السجّان البندقية، ويدخل بدوره إلى المراحيض، بينما ينتظره السجين خارجها. وحين يخرج السجّان، يسترد بندقيته من السجين، ويواصل الإثنان مسيرتهما دون تبادل كلمة واحدة! هذا عندي أبلغ  مثال للشئ السوداني.

الشئ السوداني يُعبر، في ظنِّي، خير تعبير عن الشخصية السودانية النمطية  القديمة، ببساطتها وتعقيداتها، وبرؤيتها المتفردة للدنيا وللبشر، وبردود فعلها المتوقعة حينا وغير المتوقعة غالب الأحيان. مزيج عحيب من الطيبة يُخالطها قدر من الغفلة؛ وكثير من حسن الظن بالدنيا والناس فيه شئ من الشذاجة؛ وفدر كبير من الشهامة والاستعداد الغريزي لمساعدة الغير في عالم يرتاب في من يمد يد المساعدة للغير من الغرباء؛ ونبسيط، مُخل أحيانا، لدنيا آخذة في التعقيد؛ وبراءة قد يرى فيها البعض ضربا من العبط، وفتيل قصير لا صبر معه على ما يُرى كإهانة أو استهانة، وعزّة نفس لأ  ترتضي الضيم، مقصودا كان أم غير مقصود.

ينطبق ذلك على الأفراد والجماعات، والحكومات على وجه الخصوص. في عام 1965، قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية (آنذاك) لتبادلها العلاقات الدبلوماسية مع اسرائل في حين أحجمت العديد من الدول العربية عن فعل ذلك (رغم ان المانيا، في بحثها عن موطئ قدم وسط المستعمرات السابقة لبريطانيا وفرنسا، أغدقت مساعدلتها على السودان). وفي نفس العام قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع بريطانيا لسكوتها على إعلان الأقلية البيضاء في روديسيا الجنوبية الاستقلال من جانب واحد، بينما أحجمت العديد من دول أفريقيا، بما في ذلك بعض دول المواجهة، عن اتخاذ مثل هذا القرار (في وقت كان السودان يتمتع بعلاقات خاصة مع بريطانيا رغم رفضه الانضمام للكومونولث البريطاني).

حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، كنا تلجأ لتعبير "الشئ السوداني" لفهم ما يلتبس علينا من أقوال وافعال الأفراد والجماعات والأنظمة، يُفسِّر لنا ما لا يُفهم، ونفهم به ما لا يُفسر. نضرب كفا بكف ونقول: هو الشئ السوداني! غير أن ما رايناه منذ بداية التسعينيات في ظل (أو لعلّه هجير) النظام الحالي جعل الشئ السوداني أعجز من أن يعيننا على فهم الأقوال والتصرفات والسياسات الداخلية والخارجية للنظام الحالي، ولقادته ورموزه الرسمية والشعبية و"الهجين". هل أصبح الشئ السوداني شيئا (أو مسخا) آخر، ام انه تحور مثلما تتحور الفيروسات نتاج التفاعل مع البيئة أو من جراء الطفرات الجينية (أو لعلها الجنيّة)؟

تطل عليك الصحف ووسائط الإعلام الأخرى كل يوم بما يستعصي على الفهم. ما عاد تعبير"الشئ السوداني" يكفي لشرح أو فهم ما نقرأ وما نسمع وما نرى من اعاجيب. حملت صحف اليومين الماضيين تصريحين لشيخين بارزين، طالب الأول بوقف ابتعاث السودانيين للدراسة في اوروبا وأمريكا لأن السي.آي.إي (وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية) تُعلم الشباب استخدام المخدرات (والسودان يزرع الحشيش "البنقو" قبل اكتشاف أمريكا، ومسؤولوه يضجون بالشكوى من تفشى المخدرات في الجامعات السودانية)، بينما فسر الآخر حادثة الإعتداء بالسلاح الأبيض على أحد أفراد الحرس الجمهوري أمام قصر الرئاسة بانه يحمل رسالة سالبة إلى الرئيس المصري محمد مرسي، الذي سيزور البلاد في مطلع أبريل،  مفادها أن القصر الرئاسي في السودان غير آمن، ولم يستبعد الشيخ "أن تكون هناك جهات أجنبية أو اياد خفيّة وراء هذا الإعتداء!" يا تُرى من هذه الجهات التي تبعث شخصا مثسلحا بسيف ليهجم "أورطة" مدججة الأسلحة الأوتامتيكية في قلب الخرطوم ليُدلل على أن القصر الرئاسي غير آمن لمحمد مرسي؟
أين شيئنا السوداني؟ ومن هؤلاء، ومن أين أتوا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النخله الحمقاء , ايليا ابوماضي

صخرة النبي موسى عليه السلام

سر الرقم 73 ( قصة حقيقة)