(9) شخصيات من تبج , الحاج عبد الحليم محجوب

                                                            الحاج عبد الحليم محجوب (عليه رحمة الله)



       كان شعاره الحديث النبوي الكريم
 (من كان يؤمن بالله و اليوم الاخر فليكرم ضيفه)



 لولا المشقة لساد الناس كلهم الجود يفقر و الاقدام قتال


كان و اجهة تبج حيث كان منزله بيت الضيافة لكل من زار عبري و تبج من غقير لوزير.
حضرت ندوة للكاتب الحاضر الغائب الطيب صالح قال فيه:
هناك كلام أحرص دائما على قوله الا و هو ان الاستعمار لم يكن كله شر, و قد أشرت الى المعاملة الطيبة التي لقاها مصطفى سعيد للتعبير عن هذا الجانب (انتهى كلام الكاتب).
الانجليز رغم احتلالهم لكل السودان الا انهم حينما أنشأوا خدمات البريد و الهاتف لتسيير اعمالهم ، استغلوها تجاريا لافادة القطاعات المختلفة من الشعب السوداني.
الفكر الانجليزي يحترم (الزبون) customer , , فكان العميل يعطى دفتر التلغراف يعطى لتسهل عليه ارسال (بريده) متى ما شاء, كل ما هو مطلوب منه تحرير الرسالة و ارسالها مع (العامل) مع الرسوم. استلامك للايصال يعني ارسال رسالتك.
استمر البريد منذ ان بدأ يحترم عملاءه باعطائهم دفاتر التلغرافات حتى اوقف نظام النميري هذه الخدمه في اوائل السبعينات (ربما اول العام 1972)
فنجد في دفتر الحاج عبد الحليم محجوب صور المراسلات منذ يونيو 1954 و حتى نوفمبر 1971.
وحينما استقل السودان لم نراجع المعاملات الموروثة , بل طبقناها كما هي ,فورثنا من الانجليز أسوء ما لديهم و تركنا احسن ما أدخلوه.
و من المساوىء الموروثة منهم ادخال نظام التصديق لكل خدمة , فتجد ان جهاز المذياع (الراديو) بدا بدفع رسوم و تجديد اشتركات التجديد.
و حينما ظهرت القنوات الفضائية ذاق الشعب السوداني ويلات التصديقات ,فكانت اجهزة الاستقبال تصادر من القادمين من الخارج ثم توزع للمسئولين و يباع بعضها بتصديقات من جهات لا تملك لمن لا يستحقون فاسرجوا مع (بلفر) في سرج واحد.
وللاسف لم نجد من اتفاقيات السلام خيرا سوى ابطال التصديقات على اجهزة الاستقبال.(الصورة رقم 1)
دفتر التلغراف يحكي عن حياتهم كفلم و ثائقي .
أول تلغراف موجود مرسل لاخيه الحاج عباس محجوب طالبا منه ارسال(خمسين طرحة حرير, بسرعة و عنوانه مصر باب اللوق). و هو تلغراف عمل كما يعمل الفاكس تجاريا.
ثاني تلغراف موجود مرسل الى السيد الحسن الادريسي و مضمونه (تهنئة بالعيد و نطلب منكم الدعاء , بتاريخ 1\6\1954).
و كان هذا السيد الحسن الادريسي رجلا ورعا تاب على يديه شخصيات كبيرة من الشراب فانتشر صيته بما قام من اتابة و انه كان سببا لاقلاع البعض عن الخمر , فاصبح الناس يتبركون به الى حد المبالغة .
حينما و صلت الامور الى درجات صعبة من حب و طلب التبرك به , خاف الحاج عبد الحليم من تأثيره على ردة افعالهم وعلى (ايمانهم بالتوحيد) فاقترح عليه القراءة على (بكرة خيط ) و من ثم يوزع الخيط على مقدار الاستدارة على المعصم تماما كما هو (الغويشة).


و كان يوم 15\11\1955 يوم اختيار الرئيس اسماعيل الازهري في البرلمان رئيسا فارسل مهنئا بالثقة الغالية ,عبد الحليم محجوب و احمد محمد محجوب.
و كاتحادي و تاجر و من الاعيان كان ان تكفل باستقباله في اوائل يناير حينما اتى تبج زائرا.فكانت الولائم كما أسلفنا في الشخصية رقم (2) و اخذت تبج زخرفها و لكن الزعيم الذي ظل الرجال و النساء ليومين في انتظاره , اعتذر!!!
و كانت هناك مداخلة من الباشمهندس محمد حسن جعفر كدودة في موضوع الشخصية رقم (2) , انه سمع من والدته ان الزعيم خاف من تسميمه لذا كان الاعتذار.
وكان محمد حسن بهذه الاضافة اتاح لي سؤال و الدتنا عن حقيقة هذا الامر, للاسف كانت الحقيقة ان جهة ما اوشت الى الرئيس ان هناك محاولة لتسميمه في تبج العزة.
هذا هو الضعف الذي صاحب الحزب الاتحادي منذ ذاك الزمن البعيد , الحزب الذي لا يعرف قيمة منسوبيه من الرجال غير كفء بالاستمرار, لذا نحن كشعب سوداني ندفع كل يوم فاتورة اننا لا نملك احزابا حقيقية و لو كانت هناك احزاب حقيقة لما كنا في هذا الحال من تقطيع اوصال الوطن كأنه عجل حنيذ.
راجعت كل دفتر التلغرافات لمحاولة ردة فعله ازاء رفض الزعيم اسماعيل الازهري لتناول الطعام , فلم أجد له اية اشارة بعد الحدث المؤسف فكان تلغراف 1955هو اول و اخر برقية بعثها للزعيم الازهري , و كان الجرح غائرا فلم ينسى هذه الاساءة الى ان مات.
كانت ردة الفعل الطبيعية حينما أتى الرئيس عبود حلفا زائرا التقاه ضمن من لاقوه هناك و قدم له شفاهة الدعوة لتناول الشاي في تبج.
و لتأكيد الدعوة ابرقه بتلغراف كتب فيه (ندعوكم و رفقاءكم لتناول الشاي بتبج) , ثم اردفه ببرقية أخرى لصاحبه و أخيه دكتور محمد أحمد علي وزير الصحة انذاك معلما أياه بدعوته للرئيس حاثا له لمتابعة تلبية الدعوة من قبل السيد الرئيس.
لابد انك فطنت الى ان الدعوة هذه المرة لتناول الشاي و ليس للطعام , فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
و المدهش حقيقة ان قرية صغيرة مثل تبج كان لها دور في صياغة القرار السياسي من واقع وجود رجال اشتهروا بالتجارة النزيهة و اكرام الضيف مما أغرى الحكام و المسئلوين لزيارتها والتعرف عن كثب عن رجال حملوا في صدورهم الحب و السلام و هذا عكس الواقع المرير الذي نعيشه حاليا من اشراك من قتل الابرياء في تقاسم الثروة و السلطة لان معيار الثقل و التقييم هو بما يحمل من سلاح و ما يملأ قلبه من حقد و غدر.
  أما العلاقة بين الدكتور محمد أحمد علي و والدي , ربطتهما علاقة صداقة لم تهتز ابدا حتى حينما توفت زوجته الاولى (الوالدة هجرة) أثناء عملية الولادة  و التي أجراها هو في مستشفى وادي حلفا.
لذا حينما تم نقل الدكتور الى بورتسودان تواصلت بينهما البرقيات فتشعر بان العلاقة كانت قوية لدرجة صادقة و قد أفادني الاخ محمد عبد الحليم عبر مكالمة من (الولايات المتحدة الامريكية) أنه حينما كان ياتي والده زائرا للخرطوم (زياراته للخرطوم كانت قليلة) كان يأتيه دكتور محمد أحمد علي في المنزل صباحا فيتناولان شاي الصباح في وقت مبكر جدا حتى اذا أصبح هو من النوم كان يفاجأ به مغادرا بعد ان اخذا وقتهما في الدردشة.  
كانت حياة الحاج عبد الحليم محجوب عريضة لدرجة تدعو للدهشة فهو التاجر الذي يدير تجارة واسعة بين مصر(مع اخيه الحاج عباس) و وادي حلفا (الحاج حسن محجوب) و عبري و تبج في مصر ويديرها مع ابن أخيه احمد محمد محجوب و الذي فجع الاهل بموته المفاجيء (وردت قصته في الشيخ طه).
و هو المضياف الذي لم يكن أولاده الذكور يستطيعون تجاوز باب حوش الرجال الا لتلبية ندائه , ببساطة كان الحوش الشرقي لمنزلنا بما يحتويه من صالونين ضخمين و حمام , كان هذا الجزء مخصصا للضيوف و الذين لم يكونوا ينقطعون و لا يوما واحدا و ان اختلفت فترات اقامتهم.
و هو نقطة ضيافة (الاسياد) , لكن ليس بمعنى سيد و عبد لكن هم كانوا الادارسة امثال الشيخ الحسن الادريسي و سلالته من بعده. حينما عملت استشاريا ل (سوداتل) عام 2000في منطقة شمال الجزيرة هالني و أفزعني ما رأيت من اعتقادهم بأشراف الختمية فتراهم يتحدثون عن الشيخ ابو طيارة و الشيج أبي جنينة ؟؟ و الذي طار جثمانه الى جنينة السيد علي الميرغني بالخرطوم أثناء تجهيزهم لغسل الميت !!! و المحزن أن حلمهم للمدفن المرتجى لم يرق الى البقيع !!!!.
و كانت برقياته الي الادارسة للاطمئنان عليهم و طلب الدعاء و كانت برقياتهم تتضمن السؤال عن الشيخ عبد القادر عبده بدر و الحاج بدر و وجود أمثال الشيخ عبد القادر عبده بدر(الشخصية رقم 2) ساعد في عدم انفلات ايماني و لكن رغم ذلك تصاب بالذهول لما كان يقوم من عراك للحصول على ماء وضوئه من (طست النحاس).
و هو المزارع الذي يدير مزرعة (العباسية) , تلك المزرعة التي كانت تمد الاسرة بكل الاحتياجات من قمح و نخل وخضروات و فواكه وليمون.
و الليمون الذي غنى له الفنانون النوبيون مثل الفنان المبدع (حسين الالا) حينما غنى (دسي و ليمون , سقدن سمي قون ا حاربي و ليمون). كان يملأ جيوبه بالليمون فما يمر ببيت من (دمبو) حتى يقذف ببعض حبات الليمون من خلال تلك الابواب النوبية ذوي الفتحات الدائرية حتى اذا وصل منزله اعطى ما تبقى من الليمون لاولاده ليقوموا بتوزيعه الى من تبقى من الاهل شمال تبج و الذي كان يفصله جدول عظيم (مرتي). فكانت مباريات كرة القدم تجرى على هذا التقسيم شمال و جنوب الجدول (ارو , كلو). و كان الناس رغم حبهم الشديد لليمون لا يقومون بزراعتة اشجاره , ربما لمشاكل الري. و كانت (الليموناده) مشروب الحاج عبد الحليم محجوب المفضل , لذا كان يقدمه لاحبابه. و كان يحتاط بان يقوم اهل بيته بعصر الليمون بواسطة معاصر ضخمة (هذا النوع من معاصر الحوامض لم تظهر بالخرطوم الامن قبل ثلاث سنوات) في صواني ضخمة , و كان العصير يعالج بالسكر و من ثم يترك ليجف في الظل و كانت و الدتنا تتفنن في ادخال بعض الملاعق خلال العصير داخل الصواني للحصول على مكعبات الليمون الجاهزة.
و يوجد بديوانه دولاب ضخم صنعه نجار موهوب احضره من وادي حلفا لهذا الغرض . فصنعه بمواصفات عالية الدقة و رغم كل التطور الذي دخل في هذا المجال الا انني لم أر مثله في حياتي حتى الان.
هذا الدولاب كان يحتوي في جانب منه على معينات الضيافة من حلويات و بسكويتات ويفر انجليزية الصنع والليمون أو مكعبات الليمون التي ذكرنا كيفية تحضيرها. و لحظة قدوم الضيوف يكون الحاج عبد الحليم قد قام بسمتلزمات الضيافة بدء من الحلاوة و انتهاء بالليموناده , أما الماء فكانت الازيار تقوم بتبريد مقنع حيث ان قناعات البرودة لم تكن تصل الا لما ما هو ممكن و ما سبق تذوقه.
و كان يحرص على اقتناء (القرب, دلو من الجلد) , فكان ينصبه في الشارع لتمكين الناس ليلا للحصول على ماء بارد (و يا شربة ماء من قربة الحاج عبده ).


و في أدب الضيافة و أكرامه سمعت من الاستاذ محمد توفيق ابايزيد ان الحاج عبد الحليم  أوصاه باكرام الضيف دون التفكير فيما سيقدمه له , لان الاهم الترحيب به ببشر وهو ما يقابل (بليلة المبشر و لا ذبيحة المكشر).
ورغم ان (المراح) كان عامرا و كانت تذبح الذبائح للضيوف الا ان اشتهارالحاج عبد الحليم كان بسجيته على الاكرام و ليس لشئ اخر.
 وقد علمت من الاخ اسامه عبد القادر نقلا عن والده أنه دائما ما كان يستشار من جهات قيادية لترشيح من يراه مناسبا لوظائف مختلفة , فلم يكن يأبه بان يطمع لنفسه أو لذوي القربى بل كان يجتهد في ترشيح الشخص المناسب.


اللهم ارحم كل من ذكرناهم و لا تحرمنا أجرهم و لا تفتنا من بعدهم و أكرم نزلهم و وسع مدخلهم و صلى الله عليه و سلم.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النخله الحمقاء , ايليا ابوماضي

صخرة النبي موسى عليه السلام

سر الرقم 73 ( قصة حقيقة)