سدود المخازي ، والرئيس الكاميكازي ، والبرسيم الحجازي!!!!! مهدي الزين


March 29, 2016
مهدي زين
في ١٨ سبتمبر من عام ٢٠٠٥ أصدر رئيس الجمهورية القرار رقم ٢٠٦ الخاص بنزع الأراضي في الولاية الشمالية ، وتمليك أراضي الولاية كلها لوحدة تنفيذ السدود ، وقد أثار القرار في وقته جدلاً كثيفاً وعنيفاً بوصفه مخالفاً للمادة ١٨٦ من الدستور الإنتقالي لعام ٢٠٠٥ ، ثم تجدد الصراع حول القرار مرة أخرى عندما بدأت وحدة تنفيذ السدود والتي أُنشئت في نفس التاريخ ، بموجب القرار الجمهوري رقم ٢١٧ بديلاً لوحدة تنفيذ سد مروي ، بدأت في إجراءات نزع الأراضي مما أدى الي نزاعات عنيفة في القولد وأم جواسير وغيرها .
هذا القرار الجائر  حرم الولاية كلها ، مدنها وقراها ومشاريعها الإسكانية والزراعية والإستثمارية الأخرى ، من التوسع والتمدد والتطور الطبيعي الذي تفرضه سنة الحياة وتطور المجتمعات ، وأهدر حقوق البشر القاطنين فيها والأجيال اللاحقة ، وجعل وحدة تنفيذ السدود حاكمة ومتنفذة تتحكم في مصير الولاية الشمالية وتضع تحت تصرفها أكثر من ٨ مليون فدان دون أن يكون لمواطن الولاية الحق في مراجعتها أو مساءلتها أو محاسبتها . ولترسيخ هذا القرار الجائر تمت التعديلات الدستورية في يناير ٢٠١٥ والتي جعلت من الرئيس ملكاً متوجاً ووضعت جميع أراضي السودان تحت تصرفه ، وأعطته الحق في تحديد الأراضي الإستثمارية وتوزيع عائداتها وتحديد مستويات ادارتها !!!
حاولت وحدة تنفيذ السدود ممثلة في مديرها السابق محمد الحسن الحضري ، خداع المواطنين بأنَّ الأراضي التي تستهدفها الوحدة هي أراضي بعيدة في الخلاء مساحتها مائتي ألف فدان فقط في غرب القولد ، أوجدت لها الدولة تمويلاً ب ٥٠٠ مليون دولار بالإضافة الي ٤ مليار دولار لشق الترع ولكنَّ الجهات الأجنبية ترفض التمويل الاَّ بعد أن تضع وحدة تنفيذ السدود يدها على الأرض لأنهم لا يريدون المخاطرة بالإستثمار في أراضي لا تملكها الوحدة ، كما حذرهم من أنَّ هذا التمويل الضخم سوف يتجه الي بقاع السودان المختلفة إذا رفض أهل الشمالية استثمارات وحدة تنفيذ السدود !!!
في نوفمبر ٢٠١٥ وقع السودان والمملكة العربية السعودية أربعة اتفاقيات من بينها اتفاق إطاري بشأن تمويل مشروعات سدود كجبار والشريك ودال في شمال السودان ، واتفاقية أخرى لزراعة مليون فدان ( ٤٢٠ ألف هكتار ) من الأراضي التي يوفرها سد أعالي نهري عطبرة وسيتيت .
المملكة العربية السعودية تواجه أخطاراً عديدة تهدد أمنها المائي ، فهي ليست بلداً مائياً ولا توجد بها أنهار ، وتفتقر الي المراعي الطبيعية ، وتواجه موجات جفاف متكررة وشح في معدلات الأمطار السنوية ، ورغم ذلك فإنَّ معدلات استهلاك الفرد فيها من المياه يفوق معدلات الدول الأوروبية الغنية بالمياه ، فقد كشف وزير المياه والكهرباء السعودي أنَّ معدل استهلاك المياه في السعودية تجاوز في العام الماضي ٨ ملايين متر مكعب يومياً بمعدل استهلاك للفرد بلغ ٢٦٥ لتراً يومياً ، وهو ما يعادل ضعف استهلاك الفرد في الإتحاد الأوروبي !!!
تأتي ٤٠٪ من هذه المياه المهدرة من المياه الجوفية التي تواجه خطر النضوب بصورة متسارعة ، فقد تحولت عيون مياه كانت أشبه بالبحيرات في الخرج والأفلاج الي حفر ضخمة يملؤها التراب ، وتتجه عيون الإحساء في شرق المملكة الي ذات المصير وذلك بسبب الإستهلاك المفرط للمياه !!!
لقد كان للتطور الكبير في مجال الثروة الحيوانية في المملكة وإنشاء مشاريع ضخمة للإنتاج الحيواني ، الدور الكبير في ازدياد الطلب على الأعلاف مما أدى لظهور الحاجة الي زراعة مساحات متخصصة في انتاج الأعلاف ، وقد لعب البرسيم الحجازي الدور الأكبر في هذا المجال الي جانب حشائش الرودس والبلوبانك ، وهي نباتات تمتاز بإنتاجيتها العالية ولكن يعيبها ارتفاع احتياجاتها المائية مما دعا بعض المهتمين الي المناداة بوقف التوسع في زراعة الأعلاف حفاظاً على الثروة المائية .
يحتاج الهكتار من البرسيم الحجازي الي ٣٧ ألف متر مكعب من المياه سنوياً تحت نظام الري بالرش ، بينما تصل احتياجاته الي ٤٥ ألف متر مكعب للهكتار سنوياً تحت نظام الري بالغمر وهو النظام الأنسب لري البرسيم الحجازي بسبب جذوره الوتدية .
في عام ٢٠٠٩ بلغ انتاج المملكة حوالي ٣ مليون طن علف أخضر في مساحة ١٦٢ ألف هكتار ، وإذا أجرينا عملية حسابية لمعرفة كمية المياه المستهلكة لإنتاج البرسيم الحجازي بالمملكة ، نجد أنَّ ٦ مليار متر مكعب من المياه قد تم صرفها في هذه العملية وهي كمية هائلة من المياه تعادل ثلث نصيب السودان من اتفاقية مياه النيل !!!
إنَّ ارتفاع الطلب على المنتجات الحيوانية يؤدي بالضرورة الي زيادة الطلب على الأعلاف الحيوانية ، وقد اتضح أنَّ تكلفة التغذية في مشروعات الإنتاج الحيواني بالسعودية تتراوح بين ٦٠ و ٧٥٪ من اجمالي تكاليف التشغيل في تلك المشروعات ، وقد استنزف الدعم الحكومي لهذه المشاريع الكثير من ميزانية الدولة ، حيث تشكل الأعلاف ودعمها أعباءاً هائلة على الميزانية ، فقد بلغ الدعم المقدم للشعير فقط ، والذي تستورد السعودية ٤٠٪ من إنتاجه العالمي ، بلغ دعمه ثلاثة بلايين ريال ، وعندما ارتفعت أسعاره بسبب الجفاف الذي ضرب استراليا ، اتجه أصحاب الماشية الي شراء كميات ضخمة من طحين الخبز لتغذية ماشيتهم وحفظها من النفوق مما أدى الي خلو صوامع الغلال بمنطقة حائل من الدقيق الأمر الذي أدى بدوره الي إغلاق عدة مخابز وارتفاع سعر الخبز بحائل !!!
إزاء هذا الوضع المتفاقم والخطر المائي الداهم درست هيئة الخبراء في مجلس الوزراء السعودي في عام ٢٠١٤ إمكانية إيقاف زراعة الأعلاف الخضراء في المملكة تدريجياً على مدى ثلاث سنوات حتى ايقافها تماماً والإعتماد على الإستيراد من الخارج ، وذلك للمحافظة على الموارد المائية ووقف استنزافها، وتوفير أكثر من ٦ مليار متر مكعب من المياه سنوياً ، كما طرحت الهيئة مبادرة الزراعة بالخارج ، ومبادرة استيراد الأعلاف !!!
يتضح من السرد أعلاه أنَّ تمويل المملكة العربية السعودية لإنشاء سدود كجبار والشريك ودال جاء بدافع حاجتها للأمن المائي الذي تسعى لتحقيقه بإيقاف زراعة الأعلاف الخضراء التي تستهلك أكثر من ٦ مليار متر مكعب من المياه ، باستراتيجية تهدف الي زراعة هذه الأعلاف التي لا غنى للملكة عنها خارج الحدود في دول الجوار ، وقد وجدت ضالتها في السودان .
نحن لسنا ضد الإستثمارات السعودية في السودان ، ولسنا ضد سعي المملكة لتحقيق  أمنها المائي والغذائي بالتعاون مع محيطها الإقليمي ، ولكننا ضد الإستثمارات التي لا تراعي مصلحة شعبنا . لن تقبل السعودية بأي استثمارات عالمية على أرضها تهدف الي تدمير مدائن صالح التاريخية وآثار ثمود والناقة مهما كان العائد مجزياً من تلك الإستثمارات ، وكذلك نحن لا نقبل بأي استثمارات سعودية أو غيرها تقوم على أنقاض ٩٧٥ موقعاً  أثرياً على امتداد النيل تمثل إرثنا الحضاري وتاريخنا على مدى سبعة آلاف عام ، ولا نقبل بتشتيت مجتمعات قامت على ضفتي النيل وارتبطت به حياة وموتاً ، كما لن نسمح بتكرار مأساة مازالت ارتداداتها تدمر كل يوم في نسيجنا الإجتماعي منذ أن ابتلعت بحيرة السد العالي جزءاً غالياً من حضارتنا وطمست الي الأبد ماضياً مشرقاً من تاريخنا .
نحن ضد الإتفاقيات السرية التي لا يعلم بنودها أحد ، ونحن ضد الرئيس الذي يحيط ملف السدود بسرية تامة ، ويتشبث بعدم الشفافية ، ويُصرُّ على بناء هذه السدود رغم الرفض الشامل لها ، وَمِمَّا يؤكد على سوء النوايا أنه لم يتم كشف أي بند من بنود هذه الإتفاقيات ، كما لم يتم طرح أي تصور لإعادة التوطين أو طرح أي تصور لإنقاذ الآثار قبل الإغراق وهذا يثبت أنَّ نظرة هذه الحكومة لهذه الآثار أشبه بنظرة طالبان لآثار بوذا !!!
ما هي المصلحة التي يجنيها السودان مقابل ٦ مليار متر مكعب تعادل ثلث نصيبنا من اتفاقية مياه النيل تريد السعودية استغلالها لإنتاج حاجتها من الأعلاف ؟ ماذا سيكون مصيرنا اذا اشترطت السعودية ضمن البنود السرية لإتفاقيات تمويل السدود السماح لها بتغطية الفجوة في انتاج العلف لديها والبالغة ٩مليون طن ، وهي فجوة تحتاج الي ١٨ مليار متر مكعب من المياه لإنتاجها ، وهو ما يعادل حصة مياه السودان كلها من اتفاقية مياه النيل ؟
السودان به أكثر من أربعين وادياً ، يأتي على رأسها وادي هور ووادي الملك ووادي المقدم ، تتدفق فيها مياه تقدر بأكثر من ٧ مليار متر مكعب ، وكلها أودية يمكن أن تقوم عليها سدود تقل تكلفتها كثيراً عن تكلفة السدود الثلاثة فلماذا لا تستثمر السعودية في تمويل إقامة مثل هذه السدود على هذه الأودية ؟
والسودان به الحوض الجوفي النوبي ، وحوض البقارة الجوفي بجنوب دار فور ، وحوض أم روابة ، وحوض وادي هور الذي قال عنه الدكتور أسامة الباز مدير مركز الإستشعار عن بعد بجامعة بوسطن ، أنَّ به بحيرة ضخمة بدرجة غير معقولة في حجم ولاية ماساشوستس ، وتزيد مساحتها قليلاً عن مساحة بحيرة إيري إحدى البحيرات العظمى الخمس ، وكلها أحواض تتفوق في حجمها على حوض الكفرة الذي خرج منه النهر العظيم  في ليبيا، فلماذا لا تستثمر السعودية بإمكانياتها الهائلة في هذه الأحواض بتمويل حفر آلاف الآبار الجوفية لتوفير مليارات الأمتار المكعبة من المياه تكفي لسد حاجتها من العلف والغذاء معاً ، وتساعد في استقرار وتنمية المجتمعات المحلية حول هذه الأحواض والأودية ؟
لا للسدود ، لا للسدود … مأساة عبود لن تعود ، ولن يشجينا شاعر بأغاني الرحيل بعد سليمان عبد الجليل ، ولن تُفجع ليلى تمرة الفؤاد وضفائرها الطائشة بطوفان جديد ، ولن تبكي قمرية على سعفات النخيل حليل الراحوا وخلوا الريح تنوح فوق النخل
حليل الفاتوا لدار الأهل بدون أهل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النخله الحمقاء , ايليا ابوماضي

صخرة النبي موسى عليه السلام

سر الرقم 73 ( قصة حقيقة)