7 شخصيات من تبج (ماما نفيسة مبروكة)

                            ماما نفيسة

   هي نفيسة محمد فضل المشهورة بنفيسة مبروكة و الدة الشيخ محمد احمد محمد بدر (أبو دقن) و جدة عبده سامي و الطاهر, عليها رحمة الله.
كانت ذات شخصية قوية و مع ذلك كانت تملك قلبا مرهفا يتدفق حبا لكل الاهل في تبج. الكل كان يناديها ب( ما ما) ابتدء ب (بتة) و فريال وعبدالحفيظ عبد الرسول و حسن اريا و انتهاء بجيلنا و الاجيال التي تلتنا في (تونتا) و تبج قاطبة.
كانت الامور التي تناقش تحسم عندها و الاومر تصدر من هناك , فالكل يتقبل كلامها مهما كان لانهم عهدوها لا تلوي للحقيقة عنقا.
لذا حينما كان النميري رمزا للحب و القوة في فترة ما , ناداها الناس ب(ماما نميري).
و كانت هناك ، قريبة لها تسكن في (منصور ن اركي , حي متاخم لحي تونتا جنوبا), كانت كثيرة الوساويس فاذا اصابها مرض تأتي لماما نفيسة و تشكي لها عن الامها , حتى اذا طمأنتها رجعت.
ذات مساء سكنت الحركة و انتصف الليل و فوجئت ماما نفيسة بطرقات عنيفة على الباب.
منا , ار ناساسي , قاجرى منو(ماذا , من هناك , لعل الامور بخير ؟؟)
و يأتيها الرد من قريبتها : ايلي (أنا)
من سكوسو , ماذا الم بكم ؟
اي ا دييل (أشعر باني أموت الان)
ولما كانت تعرف ان هذه نوبة من و ساويسها , صرخت ماما نفيسة تقول : اي مسكوس , مسوبين اركي دان
 (و البلاغة هنا أنها لم تقل أنها : تعبت من اهالي منصور ن اركي , بل قالت مسوبين اركي , و اصفة حيها كلها بالجنون)
أي انها تعبت من حي المجانين (و من لا يستطيع فهم الرطانة , تبقى البلاغة التي صاغتها من تشابة كلمة (منصور) و (مسوب ) عصية عليهم في متعة الفهم)
تونتا كانت تعج باهاليها فلم يكن هناك بيت مهجور , ففي أسوا الظروف كان  البيت غير العامر طول العام ، يعمر فجأة في الاجازات , حينها كان (البود ( ميدان من الرمل) يأخذ حلته من التقاء الشباب .
كانت وجوه كثيرة تختفي ثم تعود مرة اخرى فالكل كان يعرف للاجازة طعما و لتجدد زيارات الاسر لتبج نكهة .
كانت ماما نفيسة توزع الحلوى للاطفال , الحلاوة التي كانت تعطيناها كانت جد مختلفة و بمذاق مميز.
و رويدا اصبحت الاسر تزورنا في فترات متباعدة , ثم ما فتأت ان انقطعت. فكم من بيوت كانت قصورا كنا نجول حولها خرت سقوفها معانقة الارض كانهأ تبكي لألم الفراق.
و حينما توفى و الدي عليه الرحمة , رأيت الجانب الاخر من الحياة في تونتا.
تونتا التى سافر عنها الرجال و الشباب اما طلبا للرزق او العلم .
ما ان يأتي المساء ,حتى تتحرك الشجون في امهات تونتا فلا تستطيع الواحدة منهن الصمود ضد الوحدة , فتتحرك (بابة المين ( فاطمة امين نوري) و الدة معتصم , و معها ابنتها  صبرية و تأتيان الى ماما نفيسة و حينما لا يستطعن مواجهة وحشة الليل و كابته يعرجن على نفيسة بدر الدين و الدة مكاوي فتأتي الوفادة لأمي.
أمي كانت الوافدة الجديدة في عالم سفر الرجال عن نسائهم الى عالم الموت او الى دنيا العمل للبحث عن حياة افضل كما فعلها والد معتصم , و أتبعهم أولادهم للدراسة او العمل تاركين أمهات حياري.
و بعد تجاذب اطراف الحديث و تناول العشاء مما احضرنه معهن مما تيسرمن الطعام, حتى اذا أدين صلاة العشاء يواصلن ما انقطع من حديث . حديثا يبدأ قويا و كثيرا و رويدا تخفو الاصوات و
حينها يطفئن الفوانيس التي قدمن على هداهن.


حتى اذا أتى الصباح رجعن الى بيوتهن  .
 البيوت التي هجرنهن ليلا هربا من سكون ليل يقطعه نباح الكلاب أو صفير جنادب محوّلاً الليل الى كوابيس .
فاذا كان الليل قد حكم بهجر البيوت خوفا , فاشراق يوم جديد يولد الاستقلالية في شخوصهن فتذهب كل و احدة منهن لتصنع الشاى على الايقاع الذي تريده و ليرسمن الحياة حسب ما يردن.

    من الحكاوي التي لا أنساها عما حكته ماما نفيسة , في لحظة  فيها انخفض فيها حديثهن و كنْ اقرب ما يكنّ للنوم , انتقضتْ قائلة و بصوت عميق و بحسرة : مما و لدتهنّ, كانت لي ابنة كسيحة لم تعش طويلا , لكني الان بنفس القدر الذي كنت أشفق بها على مستقبلها بحالتها تلك كم اتمنى لو لم تمتْ.كانت هي الوحيدة التي ستبقى معي من دون زواج و من غير سفر , كنا سنعين بعضنا البعض على قسوة هذه الحياة.
لحظتها تبين لي كم هي الحياة غريبة و قاسية و كيف أنها أشبه بغول يبتلع الافراد فالبعيد يبقى بعيداً كالميت و يضحى الميت أقرب للذكرى.
و من أقوالها التي كانت ترددها بحسرة (اركي كدن بوي قو كومي , اصبح البلد فارغا من الناس كتورية , و في الاصل تقال هذ الجملة للارض المجدبة حينما تتحول الى حصى.
تستحق ان تعطى جائزة أول من صنع رباط للنظارة , فكانت تربطها حول الاذنين برباط فلا تسقط رغم الحركة الدؤوبة التي تشغل بها نهارها.
كانت ماما نفيسة تمتلك أذن قوية جدا , كانت فجأة تقف و هي تهمهم قائلة : أوشي كفارية جلنجيق ابتجي (هذا المطلوق يقوم بقطع الاشجار).
و تسرع الخطى و نتبعها متلهفين لنعرف حقيقة الامر , كنت اندهش حقا حينما ارى بعينى ان ما ذكرته من قطع الشجر حقيقة تبينتها باذنيها و انا بالكاد أميز ببصري.
حينما تقترب و تكون على مرمى بصر (قاطع الشجر), تنتهره بأي حق تقطع هذه الاشجار فلا هي ملكك و لا هي في ارضك!!
فيترجاها بذلة و ابتسامة ان تترك له ما قطع على وعد بالا يعاود القطع مرة أخرى.
ارن بتسينق ملك نوقدو سوككده كر, اين اكا ترك تدلين (احضر كل ما قطعته و ساعطيك اجر ما قطعت)
كانت لا تعرف اللون الرمادي , لذا في كل المواقف الشبيه كانوا يترجونها بلطف دون حنق و دون كراهية فهي بعدما حسمت الامر و أرته ان هذه الارض التي فيها الاشجار ارضها او أرض من تنوب عنه , تنصفه فتعطيه من حطب الشجر ما هو مناسب و تحفظ الباقي لملاكه البعيدين , فاما دفعت لهم بقيمته (الخراج , زكاة البلح) او تركته لهم لحين عودتهم في الاجازة حينما كان الناس يعودون لقراهم في الاجازات.
   و كانت اللطمة الكبرى التي أوغرت جراح الوحدة في ماما نفيسة و تونتا هي سفر ابنتها فاطمة (و الدة متولي) الى الخرطوم ثم لحقتها هانم فأصبحت و حدها بلا ولد و لا ابنة و .. جفت اللقاءات من موسم بلح الى اخر.
ماما نفيسة التي عرفت ألم سفر الاحباب لأول مرة في حياتها كان حينما سافرت أبنتها منيرة لزوجها و كانت منيرة تعرف شدة هذا الفراق على أمها فاستعاضت عن زياراتها بتسفير و لدها عاصم لها , فكان لها معينا و حبا.
ثم لحق السفر بابنها محمد و مع توسع أسرته و ارتفاع تكلفة السفر للبلد باعد بين الزيارات ثم لجاوا للحل القديم الذي ابتدعته منيرة فاصبحوا يوفدون لها الطاهر ولدهم.
الطاهر الحفيد المدلل اصبح مكب حبها و شوقها و ما ان كبر قليلا حتى ,( شرب من الماء الذي شرب منه عاصم من قبل), فاصبح ضنينا بالسفر اليها فاشغلت نفسها بتربية الدجاج و الغنم و الجري وراء( القش) و أصبحت توزع حليبها على اطفال تونتا فكانت ترى في كل واحد منهم صورة للاحفاد أما الابناء و البنات اللاتي و لدتهن أخذتهن المدينة من غير رحمة , بل أوقعنها في المصيدة التي و قعهن فيها من قبل .
فأحضرنها الخرطوم فكان قلبها أضعف من استيعاب كلما حدث لها فالابناء يخرجون من القرية و لا يعودون و حينما تحلم بعودتهم للبلد يأخذنها بعيدا من تبج التي احبتها و احبها أهلها .
و لان الاسماك لا تعيش كثيرا بعد اخراجها من الماء , لم تعش ماما نفيسة طويلا منذ ان خرجت (او أخرجت) من بلاد النوبة من تبج من تونتا و اودعت حياة تقسو كثيرا على من يتمسك بتراب الاجداد , فهل انتم متمسكون به يامن يراد لبلادكم الاغراق.
توفاها الله العام 1992 بالخرطوم نسال الله ان يرحمها و ان يوسع مدخلها و يكرم نزلها و كذلك بموتاكم و موتانا


والسلام (علي عبد الحليم)
























م
ماما نفيسة عليها الرحمة




تعليقات

‏قال Unknown
تعاملت مع هذه المدونة عن "حبوبة" بنفس ما فعل الشاعر ود الرضي في رائعته (انا في التمني) حين قال (اعاين فيهو واضحك واجري واجيهو راجع) واقرأ عن نفيسه مبروكة فتنشرح الاسارير وتتقافز الذكريات الاجمل في تونتا التي تفتحت عليها العين والمدارك وعندما ازمع حفيدها دكتور عمرو الكتابة عنها فيما اختار له عنوانا (نفيسة مبروكن بلو) ..كانت تحتشد عندى الكثير من الرؤى وتتزاحم المشاهد جدتي ... وبعد حادثة "حقنة الكينين" منهية الصلاحية والتي اضمرت يميني احتوتني حتى الممات حباً ورعاية وكنف وشغف حتى انها ما استجابت في غيبوبتها الا بعد ان اتيت من مدني وخاطبتها ب "حبوبة حبوبة ...سامعاني ؟؟؟ وكانت ان همهمت بكلمات اندهشت لاستجابتها عمتي منيرة ...ارتباطها وتعلقي بها امتد الى ايامي هذي حيث ما فتئت تزورني في المنام وكل رؤاي في الصبا تأتي صورتها جلية وواضحة بقسماتها الصارمة وقلبها الكبير قاتل الله المشاغل ...لكم هممت ان ادون تفاصيله عيشي معها ولكن الحياة التي اخذتنا الى دهاليز ومطالع تأبى الا ان نبقى النية بلا عمل ... ربنا يحل قيد الكلام والوقت لي ولعمرو للكتابة عن الاسطورة نفيسه مبروكة ... شكرا (علوبي بابا زهرة) كما كنا ندعوك تنوباً بالدعاء للام ...اللهم ارحم ماما واجزها عني وعن كل من احبتهم واحبوها خير الجزاء واسأله ان يجمعنا بها في الفردوس انه ولي ذلك والقادر عليه
‏قال ما تيسر
اخيرا
بعد ثمانية سنوات
الان ماتت فبني روح الكتابة
لكن سعيد بانك كتبت عن
ماما
فلتخلد ماما بسلام من برزج الى الفردوس الاعلى

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النخله الحمقاء , ايليا ابوماضي

سر الرقم 73 ( قصة حقيقة)

صخرة النبي موسى عليه السلام