أزمة السد أم أزمة الحكم في السودان؟ بقلم الدكتور عبد الوهاب الافندي - نقلا من القدس العربي-
د. عبدالوهاب الأفندي
(2)
في قضية أخرى تتعلق بمتضرري سد مروي من أهالي منطقة أمري، وقع حادث مماثل، حين لجأ المتضررون إلى رئاسة الجمهورية، التي استجابت لبعض مطالبهم المعقولة. ولكن عندما ذهب الأهالي مستبشرين لمقابلة المسؤول المباشر عن تنفيذ التوجيه الرئاسي كان رده: اذهبوا إلى الجهة التي اتفقتم معها لتنفذ لكم ما تطلبون، فأنا لم أعقد معكم أي اتفاق.
(3)
فيما يتعلق بالفئة الأكبر من ضحايا السد، وهم سكان أرض المناصير، فإن هذا السيناريو تكرر ثلاث مرات على الأقل. في كل مرة كانت الحكومة في أعلى مستوياتها تعقد اتفاقاً مع المتضررين، وتصدر توجيهات على أعلى المستويات لتحقيق مطالب المتضررين المشروعة، وفي أكثر من مرة تم توقيع اتفاق مكتوب ومشهود إعلامياً لهذه الغاية. وفي كل مرة كانت هذه التوجيهات لا تنفذ.
(4)
في واحدة من هذه المرات، صدر قرار جمهوري بتعيين مفوضية تابعة لولاية نهر النيل تتولى حسم قضايا تعويضات المتضررين، وتم تعيين مفوض خول تلك الصلاحيات حصراً. وفي الأيام التي تلت صدور القرار الجمهوري كانت إدارة سد مروي تنشر إعلانات في الصحف تطالب فيها المتضررين بمراجعة مكاتبها لمن أراد صرف تعويضاته، متحدية المفوض والمتضررين بأن 'يبلوا القرار الجمهوري ويشربوا مويته' كما قال الرئيس في مقام آخر!
(5)
في مرة تالية قام رئيس الجمهورية بزيارة المتضررين ووقف بنفسه على معاناتهم التي سلم بفداحتها عندما رأى وهو يحلق بطائرته الأوضاع المزرية التي كانوا يعيشونها. وقد اعلن وقتهاعلى الملأ استجابته لمطالب المتضررين كما تعهد بتقديم مبلغ أربعة ملايين جنيه سوداني كإغاثة عاجلة نظراً للوضع المأساوي الذي شاهده.
(6)
بعد أيام كنت برفقة مجموعة من ممثلي المتضررين التقت والي ولاية نهر النيل السابق لنبحث معه الخطوات العملية لمعالجة الأوضاع، فأخبرنا بأنه قد تسلم بالفعل المبلغ الذي وعد به الرئيس، ولكنه لن يصرفه في إغاثة عاجلة للمتضررين، وإنما سيخصصه للخدمات من مدارس وصحة وغيرها. جادلنا الرجل بأن مسألة المدارس والمرافق الصحية هي في الأصل واجب على حكومة الولاية وإدارة السد توفيرها للمواطنين، ولم تكن تحتاج لتخصيص مبلغ إضافي، علماً بأن الرئيس أشار بالتحديد في خطابه إلى محنة المتضررين وأن ما شاهده كان وراء تخصيص المبلغ. إلا أن الوالي أصر على رأيه وقال إن هذا لم يكن ما فهمه من توجيهات الرئيس!
(7)
قبل بداية حملة احتجاج المناصير الأخيرة، تدخل بعض أعضاء البرلمان من الولاية واتفقوا مع ممثلي المتضررين على آلية لتنفيذ ما تعهدت به الحكومة مراراً. ولكن بحسب ما بلغنا فإن أحد الوزراء مارس حق الفيتو على هذه الترتيبات قائلاً للبرلمانيين إنه لا يعترف أساساً بفكرة الخيار المحلي (أي حق من يريد من أهل أرض المناصير في البقاء في أرضهم). هذا مع العلم بأن رئيس الجمهورية أكد في خطابه المتلفز تأييده للخيار المحلي وتوجيهاته الصريحة بأن يكون ذلك متاحاً لمن شاء، ولكن يبدو أن للوزير 'اجتهاده' الخاص في هذه المسألة.
(8)
هناك تفسيران لهذا المسلسل الهزلي-المأساوي: إما أن الحكومة تعيش حالة من الفوضى والعجز عن تنفيذ قراراتها، حتى القرارات التي تصدر عن أعلى هرم القيادة، وإما أن الحكومة تمارس الخداع والتضليل على أعلى مستوياتها، ويمارس قادتها الكذب المتلفز. وكلا الأمرين مأساة كبيرة. ولكن المأساة الأكبر هو أن يكون كلا التفسيرين صحيحاً.
(9)
لا نريد هنا أن نستبق الأحداث بالجزم بما هو الأصح، ونترك للحكومة أن تختار، ولفطنة القارئ أن ترجح. ولكن أي خيار يستلزم بالضرورة مطالبة بتغيير سريع وحاسم في أسلوب عمل السلطة والمواقع الأهم في هرمها. فإذا كانت السلطة عاجزة فالمطلوب لبلد يواجه أزمات معقدة مثل حال السودان هو بديل أكثر قدرة على الحسم واتخاذ القرارات المصيرية. أما إذا كانت سلطة لا تحسن سوى الكذب فالأمر لا يحتاج إلى تعليق.
(10)
أوشك اعتصام المتضررين من ضحايا السد أن يكمل أسبوعه الرابع، حيث لزم الآلاف 'ميدان التحرير' الخاص بهم في مدينة الدامر حاضرة ولاية نهر النيل (سموه 'ميدان العدالة)، وهم في طريقهم إلى التصعيد ونقل اعتصامهم إلى العاصمة الخرطوم، حيث من المؤكد أن يصطدموا بالنظام وقواته مما ستكون له عواقب يصعب التنبؤ بها. وكما أسلفنا فقد تكون هذه الشرارة التي تفجر انتفاضة تسقط النظام. فإذا كان احتجاج فرد قد أسقط نظام تونس، وانتفاضة مدينة فجرت الأوضاع في سورية، فكيف حين تنتفض قبيلة بكاملها؟
(11)
إذا تحقق هذا فإنه يكون تطوراً مناسباً وجزاءً وفاقاً، لأن الأزمة في حقيقتها أزمة حكم لا أزمة سد. وهي ليست فقط أزمة تخبط إداري، بل إضاعة لموارد البلاد ومقدراتها. فكما كان الحال في دارفور، تم ارتكاب أخطاء كان يمكن معالجتها بقليل من الجهد والحكمة، ولكن ما حدث كان المعالجة بأخطاء أكبر. هنا أيضاً، لم يكن حل هذه الأزمة يكلف الكثير، ولكن الجهات المسؤولة صرفت أضعاف المطلوب في مساعيها لتجنب إعطاء الحقوق لأهلها، فأصبحت مثل المقامر الذي يراهن أكثر كلما زادت خسارته. الفرق هنا هو أن الخسائر هنا على الشعب السوداني كله، وهي خسائر لا بد أن تتوقف
القدس العربي
تعليقات