خليل عيسى – الرحيل المباغت (منتدى عبري تبج)





المغفور له باذن الله السيد خليل عيسى

رب أخ لا تعرفه لسوء حظك الا بعد أن يموت.
هكذا كان قدري مع الاخ الانسان الذي بكاه كل من أعرفه.
هذا الشخص الذي لم أسمع به الا بعد رحيله من الدنيا هو السيد خليل عيسى.
من هو ؟
اقرأ هذا الكلام, فالحديث ذو شجون
خليل عيسى – الرحيل المباغت
ميرغني عبدالله مالك (شايب)
هذا الرحيل المباغت ترك في القلوب لوعة وفي النفوس جرحاً لا يندمل، وبين الصدمة والذهول لاتزال المأقي تسكب دمعها السخين على رحيلك يا خليل. بين مكذب عقد الذهول لسانه ويراوغ حقيقة الموت، ومصدق يتذرع بصبر لا يواتيه، مضيت دونما وداع وكأنك على موعد لاتستبطأه مع موت زؤام محتوم. كان خليل سجالياً في كل شيء يحرضه فضول معرفي وتوق دافق للحقيقة عبر منهج ديكارتي وعقلاني حصيف. هذا ما يدعوه دائماً للسجال والنقاش الصاخب حتى يبدو للقصى عنه أن مهنته الكلام وأدواته كل مفردات المعرفة. وفي هذا لا يكل ولا يمل، ويبحث دائماً عن المشترك الإنساني لتأسيس أرضية للحوار، ولا يسقط في مستنقع العصبية والأثنية والجهوية أو المذهبية، فهو ينتمي لشجرة الحياه وليس شجرة العائلة أو شجرة القبيلة. ملك عقلاً حوارياً وتواصلياً مما رسخ كعبه في حلقات الحوار لايتوسل لذلك نميمة إجتماعية أو إغتياب ثقافي، فقلبه مفتوح وذهنه مفتوح لكنه غير مجبول على المواربة والمراوغة أو المخاتلة. نسج خليل شبكة من العلاقات الإجتماعية مع شرائح إجتماعية مختلفة وأطياف متعددة حتى أصبح بيته (دون باب أو حارس) وكلهم ييممون وجوههم شطر ذلك البيت زرافات ووحداناً، وقد بنوا له بيتاً كبيراً في قلوبهم الصغيرة. بادلهم وداً بود وحميمية خالصة فأضفى على حياته بعداً إنسانياً وفضاءاً إجتماعياً أكسبه حب الناس جميعاً، وأسقط كل الحواجز والحدود وجعله ملاذاً إجتماعياً وأسرياً أمناً لهم جميعاً. يهرعون إليه كلما حلت طامة أو إنسد أمامهم أفق، فيسعى بينهم بالحلول الناجزة التي هي بنت الحياة، والحكمة السديدة وما تراكم لديه من خبرات ومعرفة عميقة بصنوف الحياة وتضاريسها وتقلباتها، فيأخذون حلوله دون شد أو جذب، ولقد جعله ذلك حمامة سلام ورسول محبة، فاجتمعوا على حبه حتى الذين يخالفونه الرأي، لكنهم لا يناصبونه العداء أو الخصومة. ولقد كان تشييعه وسرداق العزاء أسطع دليل على ذلك. أجهشوا بالحزن والبكاء وكل منهم موقن أن موت خليل فقده الخاص وخسارته الشخصية، ولن يطفىء جمرة الرحيل نحيب أو دموع.
لم يسجن خليل نفسه في أسر الماضي، أو يقف على إطلاله متغنياً بأمجاد ومآثر تصنع أغلبها ذات حسيرة، منكسرة ومهزومة لم تفلح في مواجهة الحاضر بكل خيباته وهزائمه وإخفاقاته، فأثرت الإنكفاء على ماضٍ تعده عصراً ذهبياً وموئلها الأمن الذي ولى، وأعقبته عصور حجرية غارقة في ظلمة حالكة ودامسة، ولن يجدي سوى الإنسحاب وجرجرة أذيال الهزيمة والتنطع بنوستالجية مريضة. لقد قاوم خليل هذا التيار بيقين لايهزم وإيمان صلد و راسخ بأن مستقبلاً أنضر وأزهى سيأتي، لن يصنعه تفاؤل ساذج وتفكير رغبوى، لكن يشكله فكر عقلاني ووعي مشاغب ومشاكس يتحرش بالماضي والحاضر، يسعى لتفكيكه وإعادة قراءته، ولا يستنيم لاحكام جاهزة وقطعية و مسلمات يقينية تعتبر التفكير والتشكيك فيها زيغ ومروق. خروج خليل على روح القطيع دون تهريج أو لغوٍ كانت إحدى مآثره وشواهده. ولقد قاوم دون هوادة الأحكام الجمعية التي لاتقبل النقد و المساءلة، وتفسح فقط المجال أمامها لمن يقبلها مستكيناً خاضعاً ومسايراً. فهو يؤمن بحق النقد والإختلاف الذي هو جوهر التعددية التي تنزع القداسة عن الأحادية والصنمية وتجعل كل رأى قابلاً للنقد والنقض مهما تسربل بأي قناع. وهو في كل ذلك مسكون بالأمل وحب الحياة والناس وشهوة المستقبل، وشغف بروح الفريق، والعمل الجماعي دون كلل أو ملل. لايطمح لمكسب خاص أو مغنم شخصي، ولا تبهره أو تستهويه الأضواء والكاميرات رغم أن أغلب الساعين لها والمغرمين بها عاطلون عن كل فكر، وسادرون في قطيعة معرفية لا فكاك منها. يسكب فيك بروحه الطلقة ولسانه الزرب قدراً كبيراً من الطمأنينة والسكينة، وتحس بجواره بالألفة والدفء الإنساني في زمن التصحر واليباب. تلقاه مبتهجاً مبتسماً، وتشرق ملامحه ببشاشة دائمة وتطفح دائماً بمحبة لا تقاوم. كلما لقيته أخذني بأحضانه الدافئة وأمطرني بقبلات ملؤها الحب والصدق، وفي عينيه البارقتين طفولة وعذرية وبراءة. إنه أيقونة حقيقية وكنز خفي ونادر.
خليل عيسى ينتمي لثقافة الحداثة وجيل الإستنارة بما ينطوي عليه من قيم الديمقراطية والحرية والمواطنة وإعلاء صوت العقل وحاكميته، وهو إنتماء صميم ومتجذر لابهلوانية فيه أو إستعراض أو حربائية، ويصمد أمام أي تجريف سياسي أو إختطاف عقائدي ويصدع برأيه عالياً دون خوف أو مهادنة ولا يتنازل الا للحق والحقيقة، وفي هذا لايساوم أو يزايد. لقد عثر على القيم الكونية المشتركة، فعاش من أجلها شفيفاً ومتفائلاً ومبشراً بها.
عزائي لأسرته الكريمة ولأختيه شادية وسامية الذين سيكابدون لوعة الفراق وفداحة الفقد لسنوات قادمة عجاف مثلنا نحن تماماً. لقد كان نوارة الأسرة وقبانة الميزان، وتاجاً وبدراً لنا سنفقده في الليالي الحالكة الظلماء.
ميرغني عبدالله مالك (شايب)
29/5/2012

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النخله الحمقاء , ايليا ابوماضي

سر الرقم 73 ( قصة حقيقة)

صخرة النبي موسى عليه السلام