دا كلام شنو يا حسين (1,2) ابو الجعافر



 
 
دا كلام شنو يا حسين (1)
(هذا مقال نشرته في الرأي العام قبل نحو عام ردا على مقال للاستاذ حسين خوجلي صاحب ألوان)
توزع دم الأستاذ حسين خوجلي بين العجم الملحدين، من أهل شمال وشرق وجنوب
 ووسط السودان، بعد أن تمنى انقراض الرطانات، لتسود اللغة العربية لسان "الثقافة المركزية"، ثم صب اللعنات من يحسدونه على عطر الأماني، ويفهم من كلامه هذا ضمنا أن هناك ثقافة فيدرالية وأخرى ولائية، وأنه شخص مبروك ينبغي أن تحل لعنات السماء على من يحول دون تحقيقه أحلامه، وهذا كلام شين لا يليق بك يا حسين. وقد لا آتي بجديد في التعقيب على المعركة ذات النطع والغبار التي تعمد الزميل حسين إشعالها، ولكن رأيت أن أدلي فيها بدلوي، ليس فقط لأنني من القوم الذين "يستعر" حسين منهم، لأن كلامهم هو كلام الطير في الباقير، (والرطانة تعني في ما تعني الكلام غير المفهوم)، ولكن لأن هناك كثيرين يقولون أخطر مما قال حسين بل إن ما تمنى حدوثه من انقراض لغات أطول عمرا من العربية في بلادنا، كان وما يزال سياسة رسمية، فالتخاطب باللغة النوبية وغيرها من اللغات المحلية، جناية عقوبتها الضرب في المدارس، وهل انطلقت شرارة الانفصال (وليس التمرد) في جنوب السودان إلا بعد أن حاولت حكومة الفريق ابراهيم عبود تعريب الإقليم قسرا؟
والأمر الآخر الذي حملني على دخول معركة سبقني إليها من يشاركونني الرأي إزاء ما أتى به حسين في 11 أغسطس الجاري، هو أنها معركة سهلة والفوز فيها مضمون، فلو اختار الزميل المحترم أن يفسر كلام الله على هواه، واستنتج أن اللغات غير العربية هي لسان "الملحدين"، فطرف السوط يمس غالبية المسلمين في العالم، لأن أكثر من مليار مسلم أعاجم، ولا أظن أن زميلنا نفسه يصدق أن إسلام عرب السودان "أفضل" من إسلام أهل إندونيسيا وباكستان وأفغانستان وغيرها من بلدان الأعاجم، ولن أسمح لنفسي بحرية تأويل كلام الله وأردد على مسمع شيخ العرب إن "الأعراب أشد كفرا ونفاقا"، وأن هناك في محكم التنزيل آية تنهى الأعراب عن الزعم بأنهم مؤمنون "ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم"..لن نتعامل مع القرآن بانتقائية ونؤول ونفسر آياته خارج سياق نزولها، ونحن نعرف أنه وكما قال علي كرم الله وجهه "حمّال أوجه"، وإلا سنكون ممن ينهون عن فعل ويأتون مثله
ثم أين هي ثقافة المركز؟ منذ متى كان للمركز ثقافة أو حتى مشروع ثقافي و"المشروع الحضاري" نفسه لحق بمشروع سندس؟ أوليس أهل المركز العرب الأماجد هم من ظل قابضا على كافة شؤون البلاد حتى ألحقوا بالعباد ما لحق بقوم عاد وثمود وإرم ذات العماد؟ والسؤال الأهم: فيم يضير العرب ولسانهم أن يكون هناك آخرون يتكلمون لغات أخرى؟ وإذا كانت الجامعة العربية هي حاضنة العرب فقارن يا حسين بين حال أعضائها وحال أعاجم مليزيا وألمانيا والهند و، و،... ودعنا من الخوض في مقارنات "ظالمة" ولننظر حال اللغة العربية في بلاد العرب ال"صح، صح" وليس النوبيين المستعربين مثل الطيب صالح وحسين خوجلي ومحمد ابراهيم نقد وحمد الريح، هل أكسب العرب الأقحاح لغتهم مفردة جديدة تم استيلادها من ثقافتهم طوال القرنين الماضيين؟ ولا أظن أن بي حاجة للتذكير بأن واضع قواعد اللغة العربية أعجمي يسبب النطق باسمه (سيبويه) شدّاً عضليا في اللثة، والشاهد هنا هو أن لغات السودان المختلفة لا تشكل خطرا على العربية، التي يحفظها من أنزل الذكر،ولكن يهدد نقاءها العقم الثقافي الذي يعاني منه الناطقون بها وإصابتهم بمركب نقص جعلهم يبتدعون لغة "أرابيش" ذات المفردات والحروف الهجين Arabish
ولا أظن أيضا أن الاستاذ حسين يرتاح لاتهامه بأنه يرفض التعايش بين الثقافات (واللغة هي حاضنة كل ثقافة)، ولكن ومن فمه أدينه بأنه يمارس استعلاء غير مبرر على الناطقين بغير العربية، لأن أعطر أمانيه أن تندثر لغات أهل السودانيين الأصليين، (وهو منهم وبريء منهم)، بينما هم بالمقابل يعتزون بلسان العرب ويمارسون به كل صنوف الفكر والأدب والإبداع... ولا أحسب أنه أشد مني غيرة على اللغة العربية، فقط لأنه يزعم أنه عربي "قح" ونحن الرطانة عجم نتكلم بلسان الملحدين كما جاء في مقاله

(2)
لعل الأستاذ حسين خوجلي كان أكثر أمانة مع نفسه، وهو يتمنى انقراض لغات شمال وشرق وغرب السودان، فهناك من عجم السودان المستعربة من هم أكثر تطرفا منه في نظرتهم للغات والثقافات غير العربية، ويتمنون في الكواليس لو تنقرض تلك الجهات بأهلها، وليس فقط لغاتها كما انقرض جنوب البلاد، ويخيل إليّ أن هناك خلطا في عقول المستعربين الاستعلائيين بين اللغة العربية والدين الاسلامي، فمن تعرّب أو استعرب من أهل السودان فعل ذلك باعتناق الإسلام، وليس بفعل الإنتماء العرقي أو حتى الثقافي، ومن بنى وأشاد الامبراطورية الاسلامية هم الأعاجم، ومن نشر الإسلام في السودان هم أعاجم النوبة ودارفور، ومن احتضن هجرة المسلمين الأولى هم البجة، ولا عجب في أن الرسول عليه السلام رفع مقام الأعجمي سلمان الفارسي وجعله من "آل البيت" وأوكل الجهر ب"الله أكبر" لبلال الحبشي
ولا يمر يوم على أخينا حسين خوجلي دون أن يجرم في حق نفسه و"يرطن" عندما يتكلم عن التكل والدوكة العنقريب والكدريس والكراب الخاص به، والجرتق والسبلوقة والأجاويد والمشق ويطلق اسم "هناي" على كل شخص او شيء يفوت عليه اسمه الحقيقي، ومن حقه ان يفاخر بأنه عربي، ولكن ليس من حقه أن يدعو بالهلاك للغات وثقافات غير العرب في السودان، لتسود ثقافة "المركز".. وفي ما أعرف فحسين عاشق للتراث الشعبي السوداني "العربي"، وشخصيا أشاركه ذلك العشق ولكنني "أتفوق" عليه بكوني عاشقا للتراث النوبي وأجيد اللغة النوبية بلهجاتها الثلاث، ووالله ووالله لم ترد في أغنية نوبية مفردات تتعلق بشفة أو نهد أو ردف أنثى، وقد تم تكليفي في نحو عام 1977 بوضع دراسة لإنشاء قناة دارفور التلفزيونية وجمعت التراث الشعبي الدارفوري ولم أجد فيه شيئا من ثقافة المركز من شاكلة "ووب علي..".. و"تقل المرجرج الخايض الوحل" و"النهيد الما رضع جنى".. وفوق هذا كله فرغم الاهمال المتعمد للغات غير العربية فإن الناطقين بها لم يبتذلوها بمفردات كتلك التي استولدتها "سقافة" المركز: التشيكس والشمارات والماسورة والشاكوش. في بريطانيا هناك الانجليزية والايرلندية والاسكتلندية والويلزية، إلى جانب لغات أخرى ذات أصول جرمانية، وصارت بريطانيا عظمى ولا تزال لأنها وفرت الحماية لتلك اللغات وشجعت الناطقين بها على حمايتها من الانقراض، فكانت النتيجة هي أن أهل ويلز وايرلندا واسكتلندا جميعا حرصوا على اتقان الانجليزية لأنها لغة عالمية، ونبغ الكثيرون منهم في عالم الشعر والأدب باستخدام تلك اللغة، تماما كما حدث مع النوبيين الجيلي عبد الرحمن ومحي الدين فارس وجمال محمد احمد ومحمد وردي وعلاء الأسواني ومحمد منير وغيرهم الذين أدركوا أن العربية هي التي ستجعل أصواتهم عابرة للأقاليم والحدود، وسبقهم إلى ذلك الإدراك أعاجم منهم ابن سينا والأفغاني وابن حيان والنيسابوري والفارابي
وعندي للأستاذ حسين خوجلي أنباء مزعجة: منذ سنوات وباحثون وأكاديميون نوبيون يعكفون على إحياء الحرف النوبي لتعود لغة السواد الأعظم في السودان الشمالي مكتوبة بحيث يكتب أحفاد محجوب شريف وحميد وهاشم صديق وإلياس فتح الرحمن الشعر بلغة أجدادهم النوبيين.. ويشرفني أن أسهم في ذلك الجهد، ويشرفني بنفس القدر أنني عاشق للعربية وأغار عليها وأتمنى لها الرسوخ، فهي أداة أساسية لترسيخ الوحدة الوطنية، بوصفها اللغة العامة lingua franca في السودان، ووحدة وطنية تهتز بسبب وجود أكثر من لغة في البلد المعني زي قلتها.. الهند فيها أكثر من 2000 لغة ولم تهتز وحدتها الوطنية بحركات انفصالية جادة أو انقلابية لأن أهل المركز احترموا التنوع العرقي والثقافي واللغوي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النخله الحمقاء , ايليا ابوماضي

سر الرقم 73 ( قصة حقيقة)

صخرة النبي موسى عليه السلام